سورة النور - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبداً، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيماً في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن عليَّ أحد منكم، فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب، فقال لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكت! فقال قد كان ذلك تعجباً من قول حسان فلم يقبل عذره، وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتاباً ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية عليه فلما وصل إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي، وقد تجاوزت عما كان، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم، أما إذا عفا عنكم فمرحباً بكم، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ} وجهين:
الأول: وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف، افتعل من الألية، والمعنى لا يحلف، قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأموراً به؛ وثانيهما: أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت، وإنما يوجد مكان فعلت، وهنا آليت من الألية افتعلت. فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت التزمت ومن أعطيت اعتطيت، ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلاناً نصحاً، ولم آل في أمري جهداً، أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحداً، فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيراً افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت، فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول، ويروى هذا التأويل أيضاً عن أبي عبيدة. أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن (لا) تحذف في اليمين كثيراً قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم أَن تَبَرُّواْ} [البقرة: 224] يعني أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا *** ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح، وأجابوا عن السؤال الثاني، أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل، ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: {أُوْلُواْ الفضل} أبو بكر، وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين، والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز، ولأنه لو كان كذلك لكان قوله: {والسعة} تكريراً فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلاً، فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقاً غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقى معمولاً به في حق الغير، فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر، قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر، فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر، وأيضاً فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس، وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي، فإذا بينا أنه ليس المراد علياً تعينت الآية لأبي بكر، وإنما قلنا إنه ليس المراد منه علياً لوجهين:
الأول: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجاً الثاني: أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وإن علياً لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً، واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها: أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]، {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه!.
وثانيها: وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق.
وثالثها: أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلاً لأنه أعطى مالاً ينبغي، ومن أعطى ليستفيد منه عوضاً إما مالياً أو مدحاً أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذي يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} [الليل: 17 20] وقال في حق علي: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان: 9، 10] فعلي أعطى للخوف من العقاب، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل.
ورابعها: أنه قال: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} فكلمة من للتمييز، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير، وإلا لما كانت مميزة له بعينه، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره ألبتة.
وخامسها: أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله: {والسعة} على الإحسان إلى المسلمين، فكأنه كان مستجمعاً للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين، وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40].
وسادسها: إنما يكون الإنسان موصوفاً بالسعة لو كان جواداً بذولاً، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس من ينفع الناس» فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة، ولقد كان رضي الله عنه جواداً بذولاً في كل شيء، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة، وأيضاً فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده، ولكن اتفقوا على أن علياً حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالاً بالدعوة إلى دين محمد، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضاً.
وسابعها: أن الظلم من ذوي القربى أشد، قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند
وأيضاً فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».
وثامنها: أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين.
وتاسعها: أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم، وهذا وأيضاً منقبة عظيمة.
وعاشرها: قوله: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} وفيه وجوه: منها: أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ومنها: أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه، أما التقوى فلقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} [الليل: 17] وأما العفو فلقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} وحادي عاشرها: أنه سبحانه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فاعف عَنْهُمْ واصفح} [المائدة: 13] وقال في حق أبي بكر {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها: قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم، وأيضاً فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه، ثم قوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ودليلاً على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفوراً له على الإطلاق ودليلاً على صحة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها: أنه سبحانه وتعالى لما قال: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً، والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لابد وأن تكون في غاية التعظيم، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} [الكوثر: 1] وجب أن تكون العطية عظيمة، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المنقبة أيضاً ورابع عشرها: أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خالياً عن المعصية، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار، ولو كان عاصياً لكان كذلك لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا} [النساء: 14] وإذا ثبت أنه كان خالياً عن المعاصي فقوله: {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر، فكأنه سبحانه قال والله أعلم: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضاً أقبلهم وإن رددتهم، فأنا أيضاً أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا، فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل: هذه الآية تقدح في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب: عنه من وجوه:
أحدها: أن النهي لا يدل على وقوعه، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه، ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم.
وثانيها: هب أنه صدر عنه ذلك الحلف، فلم قلتم إنه كان معصية، وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصاً فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى الله عنه بقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل} لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك الأولى كأنه سبحانه قال لأبي بكر اللائق بفضلك وسعة همتك أن لا تقطع هذا فكان هذا إرشاداً إلى الأولى لا منعاً عن المحرم.
المسألة الثالثة: أجمعوا على أن المراد من قوله: {أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} مسطح لأنه كان قريباً لأبي بكر وكان من المساكين وكان من المهاجرين، واختلفوا في الذنب الذي وقع منه فقال بعضهم قذف كما فعله عبدالله بن أبي فإنه عليه الصلاة والسلام حده وأنه تاب عن ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان تاركاً للنكر ومظهراً للرضا، وأي الأمرين كان فهو ذنب.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان المحابطة وقالوا إنه سبحانه وصفه بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدل على أن ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف.
المسألة الخامسة: أجمعوا على أن مسطحاً كان من البدريين وثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام قال: لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدرياً؟ والجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد منه افعلوا ما شئتم من المعاصي فيأمر بها أو يقيمها لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم لو حملناه على ذلك لاقتضى زوال التكليف عنهم، ولأنه لو كان كذلك لما جاز أن يحد مسطح على ما فعل ويلعن، فوجب حمله على أحد أمرين: الأول: أنه تعالى اطلع على أهل بدر وقد علم توبتهم وإنابتهم فقال افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة الثاني: يحتمل أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
المسألة السادسة: العفو والصفح عن المسيء حسن مندوب إليه، وربما وجب ذلك ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفي، ألا ترى إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] فعلق الغفران بالعفو والصفح وعنه عليه الصلاة والسلام: «من لم يقبل عذراً لمتنصل كاذباً كان أو صادقاً فلا يرد على حوضي يوم القيامة» وعنه عليه الصلاة والسلام: «أفضل أخلاق المسلمين العفو» وعنه أيضاً: «ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا أهل العفو، ثم تلا فمن عفا وأصلح فأجره على الله» وعنه عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه».
المسألة السابعة: في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه.
المسألة الثامنة: مذهب الجمهور الفقهاء أنه من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها أنا ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه، وقال بعضهم إنه يأتي بالذي هو خير، وذلك كفارته واحتج ذلك القائل بالآية والخبر، أما الآية فهي أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة، وأما الخبر فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته».
وأما دليل قول الجمهور فأمور:
أحدها: قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] فكفارته وقوله: {ذلك كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره.
وثانيها: قوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة.
وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» أما الجواب: عما ذكره أولاً فهو أنه تعالى لم يذكر أمر الكفارة في قصة أبي بكر لا نفياً ولا إثباتاً لأن حكمه كان معلوماً في سائر الآيات والجواب: عما ذكره ثانياً في قوله: «وليأت الذي هو خير وذلك كفارته» فمعناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن نقض الأيمان فأمره هاهنا بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي ارتكبه بالحلف.
المسألة التاسعة: روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها: قالت فضلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعشر خصال تزوجني رسول صلى الله عليه وسلم بكراً دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إناء واحد، وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد، وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر، وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله تعالى عذري من السماء، ودفن في بيتي وكل ذلك لم يساوني غيري فيه وقال بعضهم برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد، وشهد شاهد من أهلها، وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر، وروي أنه لما قربت وفاة عائشة جاء ابن عباس يستأذن عليها، فقالت: يجيء الآن فيثني علي، فخبره ابن الزبير فقال ما أرجع حتى تأذن لي، فأذنت له فدخل فقالت عائشة: أعوذ بالله من النار، فقال ابن عباس يا أم المؤمنين مالك والنار قد أعاذك الله منها، وأنزل براءتك تقرأ في المساجد وطيبك فقال: {الطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات} [النور: 26] كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يحب صلى الله عليه وسلم إلا طيباً وأنزل بسببك التيمم فقال: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [النساء: 43] وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت زينب: أنا التي أنزل ربي تزويجي، وقالت عائشة أنا التي برأني ربي حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب: ما قلت حين ركبتيها؟ قالت قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت قلت كلمة المؤمنين.


{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات} هل المراد منه كل من كان بهذه الصفة أو المراد منه الخصوص؟ أما الأصوليون فقالوا الصيغة عامة ولا مانع من إجرائها على ظاهرها فوجب حمله على العموم فيدخل فيه قذفة عائشة وقذفة غيرها، ومن الناس من خالف فيه ذكر وجوهاً: أحدها: أن المراد قذفة عائشة قالت عائشة: رميت وأنا غافلة وإنما بلغني بعد ذلك، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أوحى الله إليه فقال: «أبشري» وقرأ: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات}.
وثانيها: أن المراد جملة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به واحتج هؤلاء بأمور:
الأول: أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله تعالى في أول السورة: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} إلى قوله: {وأولئك هُمُ الفاسقون * إِلاَّ الذين تَابُواْ} [النور: 4- 5] وأما القاذف في هذه الآية، فإنه لا تقبل توبته لأنه سبحانه قال: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة} ولم يذكر الاستثناء، وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} [الأحزاب: 61].
الثاني: أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر، والقاذف في هذه الآية يكفر لقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} وذلك صفة الكفار والمنافقين كقوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله إِلَى النار} [فصلت: 19] الآيات الثلاث.
الثالث: أنه قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} والعذاب العظيم يكون عذاب الكفر، فدل على أن عقاب هذا القاذف عقاب الكفر، وعقاب قذفه سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر الرابع: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، أجاب الأصوليون عنه بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً، فإذا حصلت التوبة منه صار مغفوراً فزال السؤال، ومن الناس ذكر فيه قولاً آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة. وقالوا إنما خرجت لتفجر، فنزلت فيهم والقول الأول هو الصحيح.
المسألة الثانية: أن الله تعالى ذكر فيمن يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات ثلاثة أشياء: أحدها: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة وهو وعيد شديد، واحتج الجبائي بأن التقييد باللعن عام في جميع القذفة ومن كان ملعوناً في الدنيا فهو ملعون في الآخرة والملعون في الآخرة لا يكون من أهل الجنة وهو بناء على المحابطة وقد تقدم القول فيه.
وثانيها: وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ونظيره قوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] وعندنا البنية ليست شرطاً للحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً وقدرة وكلاماً، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك فلا جرم ذكروا في تأويل هذه الآية وجهين:
الأول: أنه سبحانه يخلق في هذه الجوارح هذا الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام، فتكون تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح توسعاً الثاني: أنه سبحانه بيني هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله، قال القاضي وهذا أقرب إلى الظاهر، لأن ذلك يفيد أنها تفعل الشهادة.
وثالثها: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} ولا شبهة في أن نفس دينهم ليس هو المراد لأن دينهم هو عملهم. بل المراد جزاء عملهم، والدين بمعنى الجزاء مستعمل كقولهم كما تدين تدان، وقيل الدين هو الحساب كقوله ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح ومعنى قوله: {الحق} أي أن الذي نوفيهم من الجزاء هو القدر المستحق لأنه الحق وما زاد عليه هو الباطل، وقرئ الحق بالنصب صفة للدين وهو الجزاء وبالرفع صفة لله.
وأما قوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} فمن الناس من قال إنه سبحانه إنما سمي بالحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره أو لأنه الحق فيما يأمر به دون غيره ومعنى {المبين} يؤيد ما قلنا لأن المحق فيما يخاطب به هو المبين من حيث يبين الصحيح بكلامه دون غيره، ومنهم من قال الحق من أسماء الله تعالى ومعناه الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى المبين المظهر ومعناه أن بقدرته ظهر وجود الممكنات، فمعنى كونه حقاً أنه الموجود لذاته، ومعنى كونه مبيناً أنه المعطي وجود غيره.


{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
اعلم أن الخبيثات يقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، ويقع أيضاً على الكلام الذي هو كالذم واللعن، ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى، بل المراد مضمون الكلمة، ويقع أيضاً على الزواني من النساء، وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة، فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس، وإن حملناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن، فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال، والخبيثون منهم معرضون للعن والذم. وكذا القول في الطيبات وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات، وإن حملناه حملناه على الزواني فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وبالعكس، على معنى قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والمعنى أن مثل ذلك الرمي الواقع من المنافقين لا يليق إلا بالخبيثات والخبيثين لا بالطيبات والطيبين، كالرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه.
فإن قيل فعلى هذا الوجه يلزم أن لا يتزوج الرجل العفيف بالزانية والجواب: ما تقدم في قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} وقوله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ} يعني الطيبات والطيبين مما يقوله أصحاب الإفك، سوى قول من حمله على الكلمات فكأنه قال الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون، ومتى حمل أولئك على هذا الوجه كان لفظه كمعناه في أنه جمع، ومتى حملته على عائشة وصفوان وهما اثنان فكيف يعبر عنهما بلفظ الجمع؟ فجوابه من وجهين:
الأول: أن ذلك الرمي قد تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعائشة وصفوان فبرأ الله تعالى كل واحد منهم من التهمة اللائقة به الثاني: أن المراد به كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه تعالى برأهن من هذا الإفك. لكن لا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك عن أمثال هذا الأمر وهذا أبين كأنه تعالى بين أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول، فأزواجه إذن لا يجوز أن يكن إلا طيبات، ثم بين تعالى أن: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} يعني براءة من الله ورسوله ورزق كريم في الآخرة، ويحتمل أن يكون ذلك خبراً مقطوعاً به، فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هن معه في الجنة، وقد وردت الأخبار بذلك ويحتمل أن يكون المراد بشرط اجتناب الكبائر والتوبة، والأول أولى لأنا إنما نحتاج إلى الشرط إذا لم يمكن حمل الآية عليه، أما إذا أمكن فلا وجه لطلب الشرط، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنة بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفرونها بسبب حرب يوم الجمل فإنهم يردون بذلك نص القرآن فإن قيل القطع بأنها من أهل الجنة إغراء لها بالقبيح.
قلنا أليس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله تعالى بأنه من أهل الجنة ولم يكن ذلك إغراء له بالقبيح، وكذا العشرة المبشرة بالجنة فكذا هاهنا، والله أعلم تمت قصة أهل الإفك.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9